مقالة تم نشرها ب جريدة المصري اليوم ... تاريخ العدد الاثنين ٣٠ اغسطس ٢٠١٠ عدد ٢٢٦٩
بقلم د/أحمد جمال الدين موسى
بقلم د/أحمد جمال الدين موسى
فى ساحة الميدان الكبير يسود الصخب والضجيج فلا يسمع أحد أحدا ولا يفهم أحد أحدا ولا تتقابل الإرادات ولا تتعانق الرؤى. كل فريق يعتقد أنه يحتكر الصواب ويدافع عن المصلحة العليا للوطن، وداخل الفريق الواحد يسود الشك وتبرز صراعات الأهواء والمصالح والرغبة فى اقتناص المغانم والمناصب فى أول فرصة سانحة.
تعجبك أحيانا الشعارات والعناوين والأشكال وتكاد تصدق حسن النوايا، غير أنه سرعان ما تصدمك حين الاقتراب والتعامل غلبة الذاتية والنرجسية والأنانية، وتكتشف أن الواجهة الإعلامية التى يصفق لها الأنصار والتابعون، وربما أحيانا المؤجرون ليست منطبقة على الواقع وغير مؤمنة بما تدعيه وتدعو إليه، وإنما هى حملات علاقات عامة تخفى سعيا محموما لاقتناص منصب أو مغنم أو مكانة أعلى تطمح إليها بشدة.
الاتفاق أو الاختلاف لا يدور حول القضايا والخطط والاستراتيجيات وإنما حول انتزاع المغانم والمكاسب الشخصية والاعتراف المتبادل بالمكانة والاعتبار. العلاقات المستترة والمساومات المحترفة أكثر جدوى وأهمية وتأثيرا من كل التصريحات والمداخلات التى تشغل وسائل الإعلام بالنشر والتعليق والنقد والذم أو التثمين. الكتابات والمقالات التى تدبج وقد تطول إلى سلاسل متتالية ما هى إلا إعادة تدوير لما سبق دراسته وبحثه والتعبير عنه من آخرين سابقين ومعاصرين. عبارات طيبة وأفكار لا غبار عليها لن تجد معارضا واحدا، ولكن ما هو الجديد، وما هو المفيد سوى نسبة الأفكار إلى من يعيد تدويرها؟!
على أى حال، الأفكار الجيدة لا تصنع وحدها واقعا أفضل، ومطلق الشعارات والحملات ومُصدر المقالات والانتقادات لن يكون بالضرورة مُنفذا جيدا للإصلاحات التى يدعى نسبتها إليه.
واقع الحياة التنفيذية معقد والمصلح المخلص الكفء لابد أن يحدد أولوياته بوضوح حتى يحدث إصلاحا حقيقيا ولو جزئيا أو تدريجيا فى ظل صعوبات عديدة وضغوط متعددة، من بينها حروب أصحاب الشعارات والباحثين عن مغنم أو دور، أو المدعين بالنفاذ للدوائر العليا لصنع القرار، فضلا عن المنتقدين والمعارضين بلا هدف، والكارهين لكل تطوير، والخائفين من كل تغيير.
المصلح المخلص الجاد والتنفيذى الكفء المتجرد كثيرا ما يتمنى أن يستريح من أعبائه وأن يرى فى مكانه أصحاب الوجوه المبتسمة والشعارات البراقة والغزوات الكلامية حتى يختبرهم الناس ويختبرون هم أنفسهم، فتبين الحقيقة على أرض الواقع دون تزييف أو تغييب فى عالم الاستسهال المخدر.
إن من يبنى مصر بحق هم هؤلاء الذين يعملون بلا كلل فى أماكنهم ووظائفهم مهما كانت بسيطة أو صغيرة بكل الجدية والإخلاص ساعين، قدر استطاعتهم، للقيام بواجباتهم فى ظل نظام مؤسسى متهالك وظروف معيشية صعبة وسلوكيات محيطة مفسدة، موقنين أن كل عمل مخلص مهما كان صغيرا سيقود إلى بعض التحسين، وأن خطوة واحدة للأمام تؤتى ثمارها الواقعية ستكون أفضل من اللامبالاة أو من شعارات براقة لا نصيب لها من التطبيق الواقعى.
هؤلاء لا يعملون فى ظل حسابات المغانم المتوقعة والمراكز المستهدفة أو اكتساب الشعبية والفوز بالمكانة الإعلامية بفضل البرامج الحوارية، هؤلاء لا أطماع لديهم ولا بالضرورة انتماءات سياسية مؤيدة أو معارضة أو مناهضة، هؤلاء لا ينتظرون شكرا ولا عرفانا ولا مكافأة، هؤلاء رؤاهم أبسط وأصدق من ذلك، لقد جبلوا فقط على العمل المخلص ولا تستقيم حياتهم إلا بذلك، هؤلاء هم كالماس المدفون الذى يتعين على كل مسؤول مخلص اكتشافه وتلميعه والدفع به إلى الأمام. وهذه فى واقع الأمر مهمة التنظيم المؤسسى الكفء لأى دولة تسعى للنهوض والتطور.
اكتشاف المواهب الشابة التنفيذية الواعدة، سواء فى المؤسسات الحكومية أو الهيئات الإنتاجية أو فى القطاع الخاص وتدريبها وصقلها بالتعليم المتميز والخبرة المناسبة ومنحها فرصة القيادة تعتبر أولى خطوات الإصلاح، وهى أجدى نفعا من مجرد إعادة إنتاج وتدوير الأفكار الإصلاحية فى وسائل الإعلام، خاصة أنه لا جديد فى جوهرها، فهى تتكرر كل عدة سنين أو عدة عقود.
وأهم من ذلك كله، فإن من يسعى لقيادة العمل العام من السلطة أو المعارضة عليه فى المقام الأول أن يجعل نفسه قدوة للآخرين فى التواضع وإنكار الذات والجدية والواقعية والتخلص من النرجسية المقيتة وتجنب خلط المصالح الخاصة بالعمل العام، فقد يسهل خداع الناس حينا ولكن من المستحيل خداعهم على الدوام.