جدريدة المصري اليوم ... تاريخ العدد الثلاثاء ٢٤ اغسطس ٢٠١٠ عدد ٢٢٦٣
بقلم / د. أحمد جمال الدين موسي
فى معرض تحليله ومقارنته السلوك الاجتماعى للشعوب، كتب عالم الاجتماع الألمانى ماكس فيبر، ومن بعده كارل أوجست فيتفوجل، عن الاستبداد الشرقى بسماته وخصائصه التى تحول بين الشعوب الشرقية، وتطلعها إلى حياة عصرية ديمقراطية ناهضة قائمة على الرشد والموضوعية، والسعى للنجاح المادى والنمو الاقتصادى.
لقد تذكرت تحليل فيبر وفيتفوجل وأنا أزور مدينة استانبول للمرة الأولى وأتجول بين الآثار التى خلفتها الحقبة العثمانية من جوامع ضخمة مهيبة وقصور مبهرة بعمارتها وما تحتويه من ذخائر نفيسة. حقاً.. مدينة استانبول ذات موقع فريد وطبيعة جغرافية استثنائية حيث تحتضن مضيق البوسفور الذى يصل البحر الأسود ببحر مرمرة.. وحقا أيضا أن الدولة البيزنطية التى خلّفت الإمبراطورية الرومانية فى هذا الجزء من العالم قد سبقت لتشييد العمائر المهيبة، وأبرز ما خلفته كاتدرائية آيا صوفيا التى حولها العثمانيون بعد فتح القسطنطينية إلى مسجد، ثم جعلتها الدولة التركية العلمانية متحفا منذ عام ١٩٣٥، ولكن إسراف السلاطين العثمانيين فى تشييد العمائر والقصور قد فاق الخيال، مستفيدين من الثروات التى استنزفوها من البلاد الخاضعة لسيطرتهم، وفى مقدمتها مصر.
وفى الوقت الذى كانت فيه أوروبا ترسخ نهضتها وتؤكد تقدمها العلمى وتستفيد من النتائج المبهرة للثورة الصناعية، كان السلاطين يعيشون بعقلية العصور الوسطى فى السياسة والاقتصاد.. يحرمون شعبهم والشعوب الخاضعة لهم من الحرية والديمقراطية، ويقللون من أهمية العلم والتقدم الذى يدفع إليه، ويغفلون عن حيوية زيادة الطاقة الإنتاجية واكتساب روح التصنيع التى غزت أوروبا والعالم الجديد فى ذلك الوقت.
كانت النتيجة المنطقية لما سلف هى ضعف الدولة العثمانية المتزايد وتغلغل النفوذ الأوروبى فى أرجائها، ثم ظهور القلاقل والثورات من الشعوب الخاضعة بما فى ذلك مصر التى وجدت طريقها المستقل فعليا ثم قانونيا على يد محمد على وأبنائه.
استمعت للمرشد السياحى وهو يذكرنا بأن القصر المبهر الذى نتجول فى أنحائه قد أضاع الإمبراطورية العثمانية. فقصر دولمة بهجة الذى شيده على ضفة الجانب الأوروبى من البوسفور السلطان عبدالمجيد فى بداية ضعف الدولة العثمانية فى منتصف القرن التاسع عشر وأنفق فيه ٣٥ طن ذهب، منها ١٤ طنا فقط لتذهيب الأسقف الداخلية، ويضم ٢٥٦ حجرة و٤٦ صالونا و٦٨ دورة مياه و ٦ حمامات تركية، قد استنزف أموال السلطنة وأفلسها، مما قاد لتردى الأوضاع تماما وخسارتها حروبها مع المتمردين والدول الأجنبية، إلى أن تمكن مصطفى كمال من إنقاذ الوطن، ولكنه أعلن إلغاء الخلافة وقيام الدولة التركية العلمانية الحديثة فى عام ١٩٢٤. ألا يذكرنا ذلك بالخديو إسماعيل الذى قاده ولعه بتشييد القصور والمبانى الحديثة والمشروعات غير الإنتاجية المكلفة بما يتجاوز الحساب الرشيد لإدارة أموال الدولة إلى إغراقها فى الديون وتدخل الدائنين الأجانب فى شؤونها المالية، ثم فى النهاية طرده واحتلال البريطانيين مصر بعد سنوات قليلة من تولية ابنه توفيق.
التساؤل الذى يتبادر إلى الذهن يدور حول الصلة بين ما سماه فيبر وفيتفوجل الاستبداد الشرقى والولع بتشييد العمائر والمبانى والآثار.. لماذا يميل الشرقيون - حكاما ومسؤولين وأفرادا أغنياء ونافذين - لصور الإنفاق غير المنتج، ويعطون أولوية متأخرة للاستثمار فى مشروعات إنتاجية قادرة على توليد الثروة وتشغيل العاطلين؟!
هل هناك ولع شرقى بالفخامة والتميز على الآخرين، أم أن فكرة ترك الآثار الدالة على العظمة والرخاء للأجيال القادمة نقطة ضعف لدى الشرقيين منذ أيام الفراعنة وإلى الآن، أم أن المسألة سوء تقدير بالغ نتيجة ضعف المعرفة ورداءة الحسابات وعدم إدراك أن هناك مشروعات تولد وتراكم الثروات وأخرى تستنزفها ولا تولد شيئا بخلاف ما شيد مهما كان مبهرا ومثيرا للإعجاب؟!
على أى حال، المأساة فى الاستبداد الشرقى أنه يغيّب الديمقراطية، ومن ثم يحرم السلطان أو الحاكم من الرأى الآخر الذى يظهر سوء الخيارات التى تم تبنيها، وأن الأولوية الأولى فى إنفاق الثروة كان يجب أن تذهب إلى المشروعات الإنتاجية القادرة على توليد ثروات ودخول جديدة، وفى الوقت ذاته تشغيل أكبر عدد من المواطنين وتغطية احتياجاتهم الأساسية خاصة فى مجالى التعليم والصحة.
لو نظرنا الآن حولنا على امتداد البلاد الشرقية، لوجدنا أننا مازلنا نجد الظاهرة قائمة بصورة أو أخرى، على نحو فج أو أقل صراحة من ذلك، على مستوى الدولة أو فى المستويات الأدنى، حيث بقيت تتغلب الرغبة فى الفخامة والإبهار على حتمية استغلال كل مال متاح فى الاستثمار المنتج وتوفير وتطوير التعليم وزيادة فرص التشغيل للعاطلين.
غير أن اللافت للانتباه أن تركيا كانت من أوائل من تعلم الدرس، فشرعت، خاصة فى السنوات الأخيرة، فى التخلص من مظاهر الاستبداد الشرقى فى الاقتصاد والسياسة معا.
