في إطار انشغالي بقضية الإصلاح المؤسسي تساءلت عن السر في الإحساس العام بتراجع أداء المصريين، أفراداً ومؤسسات، في العقود الأخيرة، وهل يرجع ذلك لشيء كامن في طبيعتنا أم بسبب عرض طاريء حل حديثاً وأدي إلي هذا الإحساس الجمعي إلي أن الأمورلا تتقدم علي النحو المنتظر؟
لم أستغرق وقتاً طويلاً في التأكد من أن طبيعتنا بريئة من هذا العوار، فالمصريون يبدعون ويبهرون حين يعيشون في المجتمعات الأخري، عربية وغربية، وبعض المصريين يضربون علي أرضنا المثل في الإخلاص والجدية والالتزام. ولن نمل من ذكر مثال أديبنا الكبير نجيب محفوظ، الذي ألزم نفسه طوال حياته المديدة بنظام حياة ونظام عمل منضبط، مكنه من إنجاز عمله الرائع في وسط خضم الحياة المصرية الصاخبة، علي امتداد عهود سياسية واجتماعية متتالية ومتناقضة.
ومع ذلك لماذا نري البعض منا مازال يعتقد أن الفهلوة أجدي من العمل الجاد المخلص؟.. ولماذا سخر بعض أبناء الجيل الجديد من الشخص الجاد الملتزم، ويبهرهم الشخص الذي يصفونه بأنه مرن أو لازج أو روش؟!.. ولماذا يعتقد الكثيرون بأنهم سيجدون خلاصهم في سلوك فردي ذاتي كريم ومعطاء، يتعايش مع سلوك جمعي متسيب وأناني، كأن نجعل من بيوتنا واحات رائعة، نصرف عليها الرخيص والغالي، وإن أحاطت بها قاذورات وفوضي يشارك الجميع في التسبب فيها أو التغاضي عنها؟!.. ولماذا يهمل البعض الالتزام بتربية أولاده علي قيم احترام النظام والقانون، ومراعاة الآخر والمروءة والنخوة والانتماء للجماعة وحب الوطن، ويكتفي بتغذية أو مشاهدة مشاعر الفردية والأنانية والسلبية واللامبالاة؟
لماذا يستغرقنا دائماً الحاضر ومتطلباته، ويشدنا الماضي وأشواقه ولا نفكر بعقلانية في المستقبل والتخطيط له، للوصول إلي وضع أفضل وحالة أعلي مجتمعياً وفردياً؟!.. لماذا نهدر، أفراداً ومؤسسات، قيمة التخطيط للمستقبل لتحقيق طموحاتنا وأهدافنا المشروعة وما يتطلبه ذلك من عمل جاد ومتواصل وتغليب للتفكير العلمي الموضوعي علي حالات الدروشة والصخب والنصب الفكري والجهل المتردي، التي تنتشر وتتفاقم وتهدد بالخطر المكانة الثقافية الرفيعة التي حازتها مصر في منطقتنا، بفضل الجهود الجادة والمخلصة للرعيل الأول من مفكري ومخططي نهضتنا المعاصرة، ومن تلاهم من عمالقة الفكر والعلم والعمل علي مدي القرن العشرين؟!
لماذا ننبهر بالشكل والزخرف ونهمل الموضوع والجوهر؟.. ولماذا يعتقد البعض أنه يستطيع خداع أو استغفال الآخرين، وهو في واقع الأمر لا يخدع سوي نفسه، ويتسبب في إعاقة تقدمنا وقدرتنا علي تحسين نوعية حياتنا؟!
لا يكفي لسلامة أي مجتمع أن نسطر النصوص الدستورية والقانونية واللائحية القوية والشاملة، لكن العبرة بحظوظ هذه النصوص - إن جاءت جيدة - من التطبيق ومدي الاحترام الفردي والجمعي لأحكامها، فلابد لتقدم المجتمع من إحساس الجميع بمسؤولية أخلاقية ووطنية عن تحقيق هذا الهدف. فالتقدم والتطور لا يأتي وحده دون جهد جهيد، ولن تستطيع أي سلطة، داخلية أو خارجية، مهما بلغت قدراتها، أو حسنت نيتها، أن تمنحه أو تفرضه علي المجتمع ما لم يشارك معظم أفراده في العمل الدؤوب من أجل ترسيخه بكل جدية وإخلاص.
يجب ألا يشك عاقل في قدرة الشعوب علي النهوض، وتطوير أوضاعها وتحسين ظروفها في مدة قد لا تتجاوز سنوات أو عقوداً قليلة، والتاريخ زاخر بهذه النماذج، بل إننا لو نظرنا حولنا لوجدنا أمثلة جديرة بالاحترام لإنجازات إصلاحية رائعة لم يكن يتخيلها أحد لدول كانت تعاني من التخلف القفر والديكتاتورية وتدهور الأوضاع. ففي العقود القليلة الماضية جرت هذه الإصلاحات السريعة المبهرة في دول كاليابان وكوريا وسنغافورة وأيرلندا والبرتغال واليونان، ونشاهدها تحدث أمامنا الآن في ماليزيا والصين وتركيا ودول شرق أوروبا وغيرها.
يعتقد الكثيرون - وأنا منهم - أن المصريين قد ملوا ما يحيط بهم من صخب يومي لا جدوي منه، وسلوكيات أنانية قصيرة النظر، وتشتيت نحو توافه الأمور، يستغرق الوقت ويعطل خطا الإصلاح الحقيقي علي حين نري العالم يتغير من حولنا والتطور الحقيقي يقتنصه آخرون، يملكون الرؤية الثاقبة وأدوات العمل الجاد القائم علي العلم والمنطق وليس علي الخرافة والفهلوة.
إن المنافسة، وأحياناً الصراع علي المستوي الدولي والإقليمي، لن يترك للكسالي والمتواكلين إلا موقعاً متدنياً، ومصر جديرة ومؤهلة أن تكون في الصفوف الأولي من السعي نحو التقدم، ولا ينقصها إلا استعادة روح الجدية والعمل الدؤوب لدي مؤسساتها وأفرادها في آن واحد.