الأربعاء، ديسمبر 7

رسالة خاصة من د/ أحمد جمال الدين


بسم الله الرحمن الرحيم
أود فى نهاية فترة خدمتى المجددة كوزير للتربية والتعليم، بعد ثورة الشعب المباركة فى 25 يناير 2011، أن أتقدم بوافر تقديرى ومحبتى لكل المخلصين من المواطنين، خاصة المعلمين والعاملين بوزارة التربية والتعليم، الذين بدون مساندتهم ما كان يمكن تحقيق العمل المتميز الذى أنجز فى تلك الفترة القصيرة.


لقد كان قرارى بالتمسك بالاستقالة الجماعية للحكومة وتأكيد عدم الرغبة فى الاستمرار في العمل الوزاري بعد هذه الاستقالة نابعاً من إيماني بأنى قد أديت رسالتى بالقدر الذى يرضينى فى ظروف صعبة واستثنائية، وأن آخرين يمكن أن يواصلوا الطريق الذى نجحنا فى تمهيده على نحو فاق توقعاتى عند بداية المهمة.

بالتأكيد لا يمكن لأى إنسان مهما كان جاداً أو مخلصاً أن يرضى كل الناس ويحقق كافة التطلعات والطموحات المشروعة، وأحيانا غير المشروعة وغير الممكنة، ولكن المهم أن يكون قد بذل جهده مخلصاً لايستهدف سوى وجه الله والوطن.

فى تسعة شهور تغير المشهد فى وزارة التربية والتعليم على نحو إيجابي لا يمكن أن ينكره سوى من لا يريد أن يدرك الحقيقة أو يعترف بها يعميه الهوى الشخصي أو التطلع لوضع ليس من حقه.

فى فبراير 2011 كانت الدراسة متوقفة ولا أحد يفكر كيف ستفتح المدارس أبوابها فى ظل غياب الأمن وإنتشار أعمال البلطجة، وكان الأمر يحتاج شجاعة وإيماناً بالشعب وبرجال التربية والتعليم لأعيد فتح المدارس بعد أيام من تكليفى بالوزارة رغم إنتشار دعاوى الخوف والهلع، ليس فقط لدى أجهزة الإعلام وبعض أولياء الأمور، ولكن أيضا عند بعض المسئولين. وجاءت الامتحانات العامة أيضا على نحو متميز وهادئ وأفضل من السنوات السابقة لتخيب رجاء دعاة الفوضى والإثارة.

فى فبراير الماضي كان المعلمون المساعدون الذين لم ينضموا بعد للكادر يشتكون من عدم انعقاد الامتحانات، فتمت الاستجابة لطلباتهم وغيرهم وعقدت سريعا دورات استثنائية متتالية للامتحان ترقى على إثرها أكثر من 150000 معلما، ثم تم تطوير الإمتحانات من صغيتها الورقية التى كانت محل شكوى لتكون إلكترونية تعقد فى مقار تابعة للوزارة أو داخل مراكز المعلومات التابعة لوزارة الاتصالات.

وكان المعلمون الذين انضموا للكادر يشتكون من شعورهم بالإهانة من إمتحانات الترقى فتم إلغاؤها وأستبدلت بالتدريب وتقرير الكافية السنوى وتقرير لتقييم الأداء بشكل حضارى ومختصر. وكانوا يشتكون ومعهم كل الحق فى إهدار أقدامياتهم التى كانت من حقهم فى ظل قانون 47، فتم بذل جهد قانونى مضن حتى تم التوصل إلى احتساب كل فترات الأقدمية، وبدأت أكبر حركة ترقيات فى تايخ مصر وليس فقط وزراة التربية والتعليم بترقية أكثر من 600000 معلم بشكل إستثنائى.

والآن وقبل مغادرتى الوزارة هناك نحو 150000 معلم اجتازوا التدريب المختصر وقرار ترقيتهم شبه جاهز، ومئات الآلاف الآخرين بدأوا التدريب أو على وشك بدئه ليرقوا جميعاً خلال الأسابيع والشهور القادمة ويحصلون على علاوة الترقية (25% من أساس الدرجة الاعلى) فور صدور القرار بالترقية.

ورغم المحاولات البائسة لنشر الأكاذيب بشأن موضوع الـ 200% فإن محاضر مجلس الوزراء تظل شاهداً على أن وزير التربية والتعليم كان أكثر الوزراء دفاعاً وحزماً فى الحصول على حقوق المعلمين على الرغم من أن وزارة المالية كانت تستهدف فقط زيادة الحد الأدنى للدخل وليس رفع راتب بقية الدرجات. لقد نجحنا بفضل الإصرار والإيمان بأهمية التقدير المعنوي والمادي للمعلمين فى أن يحصل المعلمون وحدهم دون بقية الموظفين على زيادة إضافية بقرار إستثنائى من رئيس مجلس الوزراء تتراوح بين 125% للمعلم المساعد و 25 % لكبير المعلمين، ليصل إجمالى حوافز الاول 285% من المرتب الأساسي، على حين ترتفع حوافز كبير المعلمين لنسبة 335% من المرتب الأساسى.

وقد بذلنا أيضاً جهوداً متصلة ومضنية فى سبيل تثبيت المعلمين المتعاقد معهم فى المحافظات المختلفة والعاملين بديوان عام الوزراة، وبالفعل تم تثبيت عشرات الآلاف ويجرى حالياً الإنتهاء من تثبيت البقية الباقية منهم.

كذلك استجبنا لرجاء الآلاف الذين اشتكوا من جمود وصعوبة عملية تغيير المسمى الوظيفى وتمت دراسة المسألة باستفاضة، وأوجدنا الحلول القانونية التى تيسر تحقيق هذه التطلعات مع مراعاة ظروف كل منطقة تعليمية.

فى فبراير الماضى كان المعلمون وأولياء الأمور والتلاميذ يشتكون من نظام التقويم الشامل خاصة مايسمى بملف الإنجاز وغياب الأنشطة وتحول النظام إلى عمل إجرائى بعيداً عن أهدافه الأصلية، وقد عقدت عشرات الإجتماعات مع المعلمين والخبراء والتلاميذ وتم تعديل النظام ليكون أكثر مرونة وإحترماً لأهدافه الرئيسية وهى التركيز على التعلم النشط وممارسة الأنشطة المتنوعة بدلاً من التلقين والحفظ والامتحانات التحريرية. غير أن الصدق يقتضي التنبيه على أن التدريب والشرح المتواصل للمعلمين والمتابعة المستمرة ضرورة لضمان فاعلية حسن تطبيق التطوير الجديد على أرض الواقع.

وإيماناً منا بأهمية دور مديري المدارس فى العملية التعليمية كانت فكرة إختيار مديرى المدارس وفقاً لمعيار الكفاءة وليس الأقدمية وحدها مع منحهم راتباً مجزياً ليقودوا مؤسساتهم نحو التقدم والفعالية. وقد بدأنا بالفعل مع المدراس التجريبية وتم إرسال أوراق المرشحين للمحافظات لإتخاذ إجراءات التعيين وفقاً للقرار الوزراى المنظم.

فى سبتمبر الماضى ومع بدء الدراسة لم تشهد مدارسنا الشكوى المعتادة من غياب أو تأخير الكتب الدراسية وإنما كانت كل الكتب تقريبا فى موعدها بين أيدى الطلاب، وكان ذلك نتاج جهد مخلص ومتميز من المسئولين سواء فى قطاع الكتب أو فى المحافظات، كذلك جاءت تكلفة طباعة الكتب أدنى بكثير من أسعار الأعوام الماضية.

ورغم ضيق الوقت لإحداث تطوير فى المناهج الدراسية لهذا العام، فإن كتابي التاريخ للصف السادس الإبتدائى والثالث الإعدادى قد شهدا تغيرا إيجابياً وموضوعيا لما سيدرسه أبناؤنا عن تاريخنا المعاصر، وذلك بفضل جهد مخلص لرئيس الجمعية التاريخية المصرية والفريق الذى عاونه، ينتصر لثورة الشعب المصري العظيمة وقيمها ومبادئها فى العدالة والديمقراطية والحرية والكرامة.

قبل هذا العام كانت تفتتح سنويا عشرات المدارس التى تدرس مناهج غير مصرية وتسمى المدراس الدولية، كما كانت هناك العديد من المدراس التابعة للسفارات الاجنبية ولم يكن هناك إلزام بتدريس المواد التى تشكل الهوية الوطنية المصرية لأبنائنا المصريين الذين يدرسون فى هذه المدارس، فتم لأول مرة صدور قرارات وزراية شجاعة تلزم كل هذه المدارس بأن تدرس مواد اللغة العربية والتربية الدينية والتربية الوطنية والتاريخ المصرى والجغرافيا المصرية. كذلك تم لأول مرة وضع قواعد تنظم مصروفات المدراس الدولية لحماية أولياء الأمور من الجشع والإستغلال الذي قد يمارسه البعض.

وبالنسبة للمعاهد القومية التى كانت ولا زالت تعانى من مشاكل إدارية ومالية كبيرة وسلبيات وأوجه فساد، تم لأول تنظم شئونها من خلال إصدار أربع لوائح عامة تضمن الشفافية والنزاهة، إذا تم الالتزام بتطبيقها خلال الفترة القادمة.

ولأول مرة يتم إلزام هيئة الأبنية التعليمية بإدخال المرونة والشفافية فى أعمالها والنظر فى تبني نماذج جديدة لأبنية تعليمية تناسب ظروف القرى والنجوع والعشوائيات لتقريب المدارس من الناس واستخدام المبنى المدرسى لعدة أغراض فى وقت واحد، فضلاً عن الإشارة إلى أن إصرارنا القوي فى مجلس الوزراء قد هيأ استثمارات للمباني المدرسية تزيد عن 150% مما كان مدرجاً فى ميزانية العام السابق، وهو مايعنى مدارس وفصول أكثر وتشغيل معلمين أكثر والنزول بالكثافة الطلابية إلى حدود أقل.

وكان لوزارة التربية والتعليم فضل السبق على كافة الوزارات وأجهزة الدولة في إصدار قرار وزاري يضع حدا أقصى لإجمالي الأجور والمكافآت والبدلات والحوافز التي يحصل عليها أي مسئول في ديوان عام الوزارة أيا ما كان مسمى وظيفته، لا يتجاوز عشرة أمثال ما يحصل عليه موظف الدرجة الثالثة التخصصية الحديث، وهو حد أقصى يعتبر أقل بكثير من الحد الذي كانت تسعى إليه وزارة المالية ولم يصدر بعد بشأنه قرار ملزم، وهو 36 مثلا. وهذا القرار تجسيد لقناعتي بأهمية تحقيق العدالة الاجتماعية وتقريب مستويات الدخول بين المواطنين.

وأخيراً أود الأ أنسى مبادرة إنشاء مدرسة المتفوقين فى العلوم والتكنولوجيا بالمدينة الكونية في مدة وجيزة، وهي التى تشكل نقلة نوعية فى مدارسنا تضعنا فى مصاف الدول المتقدمة التى أولت هذه النوعية من المدارس إهتماماً خاصاً فى السنوات الأخيرة، حيث يتم التركيز على المعامل أكثر من الفصول، فيتم تدريب الطلاب المتفوقين الذين تم اختيارهم بمعايير شفافة صارمة، على حل المشاكل وعمل المشروعات وتقديم الافكار والإبتكارات الجديدة وليس مجرد حفظ الموضوعات والإمتحان فيها. وتقضى خطتنا جعل هذه المدرسة المكان الذى يتم فيه تجريب برنامج دراسى جديد متميز للمرحلة الثانوية تمهيدا لتعميمه لاحقاً على بقية المدارس. وقد بهرت هذه التجربة الجديدة كل من زارها سواء من المصريين أو الأجانب. وقد شرعنا للعمل على افتتاح عدة مدارس متفوقين جديدة فى زهراء المعادى والإسكندرية وأسيوط والدقهلية مع بداية العام الدراسى القادم إن شاء الله تتبعها بقية المحافظات إن استمرت الجهود بنفس الحماس والإخلاص.

هذه الجهود وغيرها مما لم يذكر هنا لم تكن لتتم فى غضون شهور معدودة دون إيمان حقيقى بمصر والمصريين الراغبين فى رسم مستقبل متميز ومختلف عن الفترة السابقة، ودون جهود فريق عمل مخلص وأداء رائع من أبناء التربية والتعليم فى المحافظات وديوان عام الوزارة، وهى جهود نحتسبها كما تعودنا لوجه الله والوطن.

وهى لكونها جهودا بشرية لم تكن ولن تكون كاملة أو مبرأة من النقد والقصور، وتلك سمة كل عمل بشرى، ولكنها على الأقل من جانبي ومن شاركني فيها محاولة مخلصة لجعل حاضر ومستقبل التعليم في مصر أفضل ولو قليلاً.. فخطوة للأمام أفضل من الوقوف فى المكان أو الرجوع للخلف أو الصياح والزئير فى الفراغ على نحو عبثي يعيق التقدم وينفر المخلصين والجادين من العمل العام.

كانت تلك الشهور بالنسبة لي تضحية معنوية ومادية ولكنها واجبة، فهي أقل ما يمكن تقديمه من محب لبلده، يقدمها إليها راجياً أن يكون قد أصاب وأن تكون حسناته أكثر من سيئاته، متمنياً الخير والنجاح للجميع داخل وزراة التربية والتعليم وخارجها، بمن في ذلك من تورط أحيانا بالإساءة على غير محل أو مبرر.