المصري اليوم .. الاحد ٢٦ اكتوبر ٢٠٠٨ عدد ١٥٩٦
من أبرز الأمور التي تثيرها الأزمة المالية الحديثة وجوب إعادة التفكير في دور الدولة في الحياة الاقتصادية للمجتمع، تأكيداً لأهميته في تحقيق التوازن بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة مرة إضافية عبث الانحياز المطلق لخيار سيادة قوي العرض والطلب، وتغييب الرقابة علي أداء المؤسسات والأسواق.
غير أن تدخل الدولة الاقتصادي وكذلك الاجتماعي أو السياسي يثير مجموعة كبيرة من القضايا التي تتناول كفاءته ومرونته وقدرته علي قيادة المجتمع نحو أوضاع أكثر رقياً وتطوراً، ولذلك تأتي أهمية الإصلاح المؤسسي الذي يسلم بدور الدولة، القيادي في حياة المجتمع ولكنه يسعي لجعل هذا الدور أداة فعالة، لتحقيق أهداف التقدم والكفاءة والتنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية.
ونحن نعتقد أن الإصلاح المؤسسي يجب أن يسمح بإقرار قواعد ومعايير ومن انتقال قيادة مؤسسات الدولة من غير المؤهلين وغير الموهوبين إلي أشخاص أكثر موهبة وكفاءة وتأهيلاً، وأن تصبح الكفاءة وحدها هي أساس الاختيار للمراكز القيادية، وليس المجاملات أو العلاقات أو مجرد الأقدمية، ومهمة القيادة المؤهلة هي أداء الأعمال بمهنية واحتراف، وليس عن طريق الارتجال والفهلوة، واستخدام أساليب الإدارة الحديثة، والتحليل العميق للمشروعات التي يخطط لتنفيذها وكذلك لآليات هذا التنفيذ وانعكاساته علي المؤسسة نفسها وعلي المجتمع ككل.
وقد تغني الإدارة الجيدة للمؤسسات القائمة عن إنشاء مؤسسات موازية أو بديلة، لأنه أمر مكلف وغير مضمون النتائج، ومع ذلك نجد بعض المسؤولين يستسهل هذا الحل باعتبار أنه لا أمل في إصلاح المؤسسات العتيقة القائمة، فالأجدي - من وجهة نظرهم - تركها جانباً لتنهار أو تفقد أهميتها تدريجياً دون المخاطرة بالتدخل لإصلاح أوضاعها ومجابهة المقاومة المتوقعة في هذه الحالة.
فالخيار الأيسر هو الاتجاه نحو إنشاء مؤسسات موازية، ذات كفاءة أعلي، وقواعد أكثر مرونة وعصرية، غير أن تجربتنا في السنوات الأخيرة تؤكد عقم هذا التفكير وسطحيته، حيث سرعان ما تتحول المؤسسات الجديدة إلي كيانات، إما سطحية غير قادرة علي التصدي للمشاكل الحقيقية لأنها تعمل خارج الإطار العام للتنظيم المؤسسي للدولة، وإما مكلفة للغاية بما لا يتناسب مع النتائج التي تحققها لأنها تتمتع بمزايا وإمكانيات واعتمادات تفوق بمراحل ما تحصل عليه المؤسسات القديمة، خاصة عندما تختفي الأوضاع والمزايا الخاصة التي تمنح لها أو للعاملين بها والقائمين عليها.
لذلك نحن نري أنه لا مفر من التصدي لإصلاح المؤسسات القائمة متسلحين بروح المسؤولية وبالشجاعة والقدرة علي الإقناع لمواجهة تحديات التغيير والمقاومة المتوقعة من البعض، أما ترك المؤسسات القائمة علي حالها فهو هروب غير مبرر ونفقة عالية للغاية يتحملها المجتمع، خاصة الأجيال التي سترث أوضاعاً أكثر تدهوراً وسوءاً.
علي سبيل المثال قد يكون إنشاء جامعة جديدة وعصرية بقواعد تكفل أداء أفضل وكفاءة أعلي اختياراً جذاباً للمسؤولين، وقد نخصص لها مئات الملايين من الجنيهات، آملين أن تؤهل خريجيها بمستوي مماثل لأرقي الجامعات الأجنبية، ولكن هل نضمن استمرارها بهذا التميز في بيئة جامعية ومجتمعية غير مواتية؟ وهل نتوقع أن يساوي ناتجها ما ينفق عليها؟ وما مدي تأثيرها الإيجابي والسلبي علي المؤسسات الجامعية الموجودة؟
وهل نترك ملايين الطلاب وعشرات الآلاف من الأساتذة والعاملين ومليارات سبق إنفاقها علي الجامعات القائمة مع ما تزخر به من ثروة بشرية وتأثير مجتمعي دون إصلاح حقيقي وجذري بحجة صعوبة التغيير وشدة المقاومة له، مكتفين بالتركيز علي كيانات صغيرة تضم بضع مئات من الطلاب وبضع عشرات من الباحثين؟ وهل يعد ذلك سلوكاً رشيداً بأي مقياس من المقاييس؟!
في المثال السابق وعشرات الأمثلة الأخري يتجاهل المشرع أو المسؤول عن المرفق الذي يحتاج إلي الإصلاح أن هناك نفقة أو ثمناً جسيماً يتحمله المجتمع عند التقاعس عن البدء في التغيير والإصلاح، فالسكون وتجميد الوضع علي ما هو عليه ليس أمراً محايدا،ً ولكنه بالتأكيد يعد اختياراً سلبياً يتعين دفع تكلفته في الوقت الحالي بشكل أكثر جسامة في المستقبل.
فلا يجب أن تغيب عن بالنا حقيقة أننا نعيش في عالم ديناميكي يستلزم فهم عنصر الوقت وتقدير أهمية الزمن. الإصلاح الحقيقي للدولة لا يقتصر في رأينا علي مجرد اتخاذ خطوات جزئية أو تغيير بعض الأوضاع التي تثير الاستياء هنا وهناك، أو الاستجابة لجانب من المطالب أو إنشاء كيانات جديدة مبتسرة تقود إلي انفراجة مؤقتة في بعض المجالات.
ولكنه يتعلق أساساً بالروح التي ندير بها الدولة والتي تتطلب إصلاحاً حقيقياً وجذرياً، الحقيقة هي أن الإصلاح يعتبر عملية طويلة الأمد تتطلب إجراءات متعددة ومتتابعة لابد أن تندرج في إطار استراتيجية قائمة علي الاستمرار والتواصل، وستصاب بالضرر الجسيم إذا توقفت وتعثرت بسبب تغير المسؤولين أو ترددهم أو تراجعهم أو افتقادهم الرؤية الشاملة.
فعندئذ سيدور الإصلاح في حلقات متعاقبة دون أن يفضي أي منها إلي حل المشكلات القائمة أو مواجهة الأوضاع المتدهورة أو تحقيق التقدم الحقيقي الذي يحسن رفاهة المواطنين ويعزز فرص الأجيال القادمة في حياة أفضل، وهذا للأسف ما يحدث في أحيان كثيرة علي أرض الواقع.