الاثنين، ديسمبر 19

الدولة الرخوة والإصلاح الحقيقى

المصري اليوم ...  تاريخ العدد       الاحد   ١٦   اغسطس   ٢٠٠٩     عدد    ١٨٩٠

بقلم   د. أحمد جمال الدين موسى    ١٦/ ٨/ ٢٠٠٩
فى منتصف عام ١٩٨٣ طلب منى بيير بسكالون، الذى كان أحد مشرفى رسالتى، وكان أستاذا متميزا للاقتصاد، ونائبا فى الجمعية الوطنية ثم عمدة لإحدى المدن الفرنسية، أن أنضم إلى باقى طلاب الدكتوراه الفرنسيين والأجانب الذين كان يشرف على رسائلهم إلى اجتماع مهم خُصص لطرح فكرة جديدة للأستاذ وهى تأليف كتاب جماعى عن موضوع الدولة: مفهومها، نشأتها، دورها ووظائفها، ثم انهيارها، وذلك من خلال تحليل إسهامات كبار المفكرين والفلاسفة والاقتصاديين منذ بدء الحضارة وحتى الآن.







وكان المطلوب من كل منا اختيار واحد من هؤلاء لمطالعة أعماله وتحليل أفكاره لاستخلاص مقال فى حدود عشرين صفحة عن موقفه من الدولة وفقا للتقسيم السالف بيانه. كان اختيارى لجونار ميردال، الأستاذ السويدى الحاصل على جائزة نوبل فى الاقتصاد لعام ١٩٧٤. وقد اضطرنى هذا الاختيار للاطلاع على جميع أعمال ميردال المتاحة باللغتين الفرنسية والإنجليزية..

كان أكبر هذه الأعمال حجما، وربما أكثرها قيمة، مؤلفا ضخما مكونا من أربعة أجزاء تحت عنوان «الدراما الآسيوية – بحث فى فقر الأمم»، الذى نُشر فى عام ١٩٦٨ وعبر فيه ميردال عن تشاؤمه بشأن فرص التقدم والتنمية فى البلاد المتخلفة خاصة دول جنوب آسيا، وعلى وجه الخصوص الهند.

ولم يتوقف ميردال عند تحليل العوامل الاقتصادية ولكنه ركز على وجه الخصوص على العوائق السياسية والسوسيولوجية التى تحبط جهود التنمية، ومن هنا أدان بشدة ما سماه «الدولة الرخوة» The Soft State ،

وهو التعبير الذى انتشر فيما بعد فى جميع الكتابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليعبر عن حالة دول كثيرة تعانى من ترهل جهازها الإدارى الذى يستأثر باختصاصات عديدة ويضيق خناق المبادرات الفردية على حين يبدو عاجزا عن القيام بهذه الاختصاصات والمهام لوقوعه فريسة عدم الكفاءة، وانتشار الفساد والمحسوبية، والانصراف للحصول على مكاسب وريوع خاصة من وراء الوظيفة العامة، والخضوع لأصحاب النفوذ، وانعدام الرؤية الإصلاحية والتخطيط المحكم والرقابة الفاعلة، وغياب السعى للمصلحة العامة، وعدم الخضوع المستمر لتقييم ومحاسبة المواطنين أو ممثليهم الحقيقيين.

وجود مثل هذه الدولة فى رأى ميردال عائق حقيقى ضد جهود التقدم والتنمية، ولذلك يتعين اتخاذ خطوات إصلاحية شجاعة لتغييرها عن طريق تقليص حجمها وتخليصها من مهامها ووظائفها غير الجوهرية، وتركيزها على رسالتها الحقيقية ورفع كفاءة القائمين عليها وحسن اختيارهم وإنفاذ القوانين بكل صرامة وعدالة، ومحاربة الفساد صغيرا أو كبيرا، وكذلك النفوذ والمحسوبية.

ولابد لنجاح هذا الإصلاح من تدخل الدولة لضمان كفاءة المرافق العامة، وتحقيق عدالة مقبولة فى توزيع الثروات والدخول، ودعم الصناعات والمشروعات الوطنية الوليدة لمجابهة مشكلة البطالة، ودعم التعليم للقضاء على الأمية والتسرب والجهل، والتأثير على العادات والسلوكيات لجعلها أكثر إيجابية وأقل سلبية، وتشجيع الحراك الاجتماعى عن طريق محاربة جميع أشكال التمييز السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى بين المواطنين.

إصلاح الدولة أمر حتمى لتحقيق التنمية والرفاهية، ولا يغنى عنه تدفق الدخول الريعية أو المساعدات أو الاستثمارات الأجنبية، ولذا أكد ميردال فى محاضرته فى مارس ١٩٧٥ فى ذكرى ميلاد ألفريد نوبل أن ما تحتاجه الشعوب الفقيرة ليس تدفق الأموال، لأن توزيعها فى ظل الفقر المنتشر والتهرب الضريبى السائد بين الأغنياء لن يقود سوى إلى زيادة التضخم ومن ثم إلى مزيد من الضرر بالفقراء، ولكن ما تحتاجه بشدة هذه الشعوب هو تغييرات جذرية فى ظروف حياتها وظروف عملها لتحقيق المزيد من العدالة والكفاءة فى نفس الوقت، وهما هدفان لا ينبغى فصلهما بأى حال خاصة فى البلاد النامية.

وفى اعتقاد ميردال يعتبر الإصلاح الزراعى وإعادة هيكلة التعليم والصحة وجعل الدولة الرخوة أكثر فاعلية وكفاءة عن طريق استئصال الفساد فى جميع المستويات، أهم الإصلاحات الجذرية الواجب الشروع فيها فى الدول الطامحة للتطور والتنمية، فهى متطلب سابق prerequisite، لا تقدم ولا عدالة ولا تنمية دون تحقيقه.

ولا يخفى ميردال اتهامه للدول الغربية بأنها تحابى فى علاقاتها بالدول النامية الفئات القادرة، ومن ثم تشجع على إبقاء الهياكل الاقتصادية والاجتماعية غير العادلة. وجدير بالإشارة أخيرا أن الدولة الرخوة رغم قصورها أفضل حالا من الدولة الفاشلة failed state أو الدولة العاجزة Etat défaillant، وهو تعبير ظهر منذ مدة ليست بعيدة ليشخص حالة الدولة التى تعجز تماما عن القيام بوظائفها الأساسية، فلا تحمى مواطنيها ولا تضمن سلامتهم البدنية، وتعانى من اضطرابات داخلية وتدخل أجنبى فى شؤونها، وانهيار مرفق العدالة، وربما تدفق اللاجئين وانتشار العنف المسلح وعدم الاستقرار الظاهر.