السبت، ديسمبر 17

هواجس الجدار العارى

 المصري اليوم ....  تاريخ العدد       الاثنين   ٢٣   اغسطس   ٢٠١٠     عدد    ٢٢٦٢


فى اللحظة الميتة من تاريخ الجدار العارى المنتصب أمامى، تأملت بعمق فى نقطة اللاتوازن التى أراها تفصل بوضوح بين الماضى المنصرم والمستقبل الآتى.

فى عام ٢٥٥٥ قبل الميلاد، تأمل الصبى رابتاح بدهشة هرم خوفو الكبير وقد اكتمل وانتصب ببهاء طاغ، فأيقن أن الماضى قد انقطع وأن ما سيشاهد ويدرك من هذه اللحظة فصاعدا ستكون مقاييسه مختلفة عما سبق ومضى.
شهقت كريمة، فتاة قريتنا البريئة، وهى تختلس النظر إلى الراقصة الشرقية المفعمة بالحيوية تتصدر شاشة أول جهاز تليفزيون يدخل القرية فى بيت كبيرها عبدالجابر، ولم يكن رد فعل زوجته أو ابنتيه يختلف كثيرا، فقد زالت الرتابة وتغير نمط الحياة وأصبحت الأيام غير الأيام وانزوى الماضى واقتحمت دنيانا عوالم براقة زاحفة عبر الأثير فى موجة متلهفة جنونية الإيقاع لا يمكن اكتشاف كنهها إلا بعد سنوات وسنين.


تجاوزتُ عتبة السنوات الستين، فرجع بى الحنين للقاء العصر على مصطبة الشيخ درويش عبدالمكين، وقد شدنى فى طفولتى المبكرة حوار الكبار وهم يدخنون بهدوء جوزة المعسل والسجائر اللف ويتضاحكون بصوت عال ببراءة مَن لم يحمل هما ومَن لا تطارده الدنيا بكرباج، فالزمن ممتد والكلمات مجرد كلمات، لا تجرح ولا تُأول ولا تبحث عن تغيير الكون.. كان ذلك قبل أن يتبدل الحال وتسرق حياتنا الدوامة ونفقد الأمل فى عودة البراءة والابتسامة.

فى المقهى الغارق فى الأنوار المورق بالزهور والنساء الأنيقات الحسان، صارحنى المفكر والمبدع المشهور بأن الزيف يغمره والملل يقتله وأن أيامه الأولى فى حضن بلدته الصغيرة المهملة هى ملاذه حين تعصف به الأفكار وتنحرف بوصلته الهادية ويتمزق ثوب الزيف الذى يوارى به سوءاته أمام صرخات ضميره المجهد، فهل لتلك الأيام من عودة؟!
فى بحثه المتعمق حول إشكالية العلاقة الجدلية بين النمو والقذارة، توصل الدكتور سعدى سعدون إلى أن سبب إحساسنا بالهم المتأصل وعدم قدرتنا على تقبل التغيير وتغافلنا عن إدراك التحسن الملموس فى المؤشرات الاقتصادية يعود كله لارتباطنا بالماضى وتجاهلنا المتعمد للحاضر ومعطياته.. وقد أظهرت نتائج النموذج المعقد الذى استخدمه الباحث أن سبب ذلك الاستلاب نحو الماضى هو انتشار القذارة وغياب النظام وطغيان الفهلوة والاستثناء فى حاضرنا، على حين لم يعرفها ماضينا إلا كظواهر استثنائية..

 فالمواطن مشوش يفتقد الرؤية لما يجب أن يكون ولما هو خير ولما هو واجب، فأمانه النفسى يستمده من الماضى وقيمه ناصعة الوضوح، ولذلك يشعر نحوه بحنين قد يراه البعض غير مبرر فى إطار التقدم الاقتصادى والعولمة الطاغية.. عندما استمعت للدكتور سعدون، لم أعرف هل أصفق له لجهده العلمى المبتكر، أم أبكى لحالنا وأترحم على ماضينا وأترفق بمستقبلنا الغامض!

رأى عبدالسميع الزاهد الشمس ككرة بلورية ملتهبة تهبط على الأرض بسرعة خارقة فتقتحم الأجساد البشرية وتطهرها من دنيويتها الغالبة وتعيد ضبطها على النواميس الكونية الصحيحة، ثم تغادرها وتعود من حيث أطلت، فتسترد الحياة الأرضية صحتها وبهجتها التى افتقدتها منذ سنوات وربما قرون.. غير أن رؤية عبدالسميع كانت لحظة شرود حالم فى وقت القيلولة فى نهار صيفى قائظ، بعدها تصبب منه عرق لم يعرفه من قبل.

فى لحظة صفاء، صارحنى ريمون، صديقى، نصف الأوروبى، الذى يراه معارفى باردا وربما صفيقا بأن أحلامنا وتهويماتنا تشوش على رؤيتنا، فإذا أغفلنا المنطق وعبر التاريخ واكتفينا بالتمنيات والرغبات، وإذا لم نعد نرى سوى الغنائم والصفقات، وإذا أضعنا جوهر الحياة وأغفلنا الحد الأدنى من القيم والقوانين الحاكمة لتعايش البشر فى ظل جماعة منظمة، نتيجة للإفراط فى الأنانية والفساد، فستنهار الجماعة ويغيب العقل، وتصبح الخطط مجرد تمنيات، والأهداف محض سراب وأوهام.
كان صادق محبوب، عمدة قرية زميل دراستى ناجى محمود، رجلا حصيفا خبرته الأيام وخابرها، رسخ أقدامه وأقدام ذويه فى القرية سنوات طوالاً.. ذات يوم، أتى إليه ابنه قلقا من كلام الناس وشكواهم، ناصحا والده بالتمسك بقليل من المرونة والتغيير.. ضحك صادق ساخرا من ابنه وقلقه وأجاب بحكمة يوقن بها: لا تهلع يا ولدى ولا تصدق شعارات الإصلاح والتغيير، فما نعرفه أفضل مما نجهله، وكل تغيير بدعة، وشر الأمور مستحدثاتها، والزمن كفيل بمعالجة شكاوى الأهالى كما فعل بهم وبآبائهم منذ سنين الأولين البعيدة، فسينامون، ولو بعد حين، قانعين هانئين شاكرين.

لم أعرف وللآن، لماذا داهمتنى هذه الرؤى المشتتة الساذجة حين نظرت للجدار العارى المنتصب أمامى فى لحظة خاطفة مسروقة من حياة تبدو صاخبة.